أبو الفضل يحيى بن نزار بن سعيد المنبجي، ذكره الحافظ أبو سعد عبد الكريم السمعاني في كتاب " الذيل على تاريخ الخطيب " المختص ببغداد، فقال: له شعر مطبوع غير متكلف، وكتب لي أبياتاً من شعره، وسمعت منه، وسألته عن مولده فقال: ولدت في المحرم من سنة ست وثمانين وأربعمائة بمنبج. وأورد له مقاطيع أنشده إياها، فمكن ذلك قوله:
وأغيد غضٍ زاد خـط عـذاره
لعاشقه في همه والـبـلابـل
تموج بحار الحسن في وجناتـه
فتقذف منها عنبراً في السواحل
وتجري بخديه الشبيبة مـاءهـا
فتنبت ريحاناً جنوب الجـداول
قلت: وقد خطر لي على هذا مأخذ وهو أنه جعل البيت الثاني بحار الحسن تموج في وجناته، فكيف يقول في البيت الثالث " وتجري بخديه الشبيبة ماءها " وما مقدار ماء الشبيبة بالنسبة إلى بحار الحسن؟ وما كفى هذا حتى جعلها جداول، والجداول والنهار، وأين النهار من البحار؟ ثم إنه في البيت الثاني قد شبه العذار بالعنبر، فكيف يجعله في البيت الثالث ريحاناً؟ وأين العنبر من الريحان؟ وإن كان كل واحد من العنبر والريحان قد جرت عادة الشعراء أن يشبهوا به العذار، ولكن في مقطوع واحد من الشعر ما لهم عادة يجمعون بينهما.
وكنت قد سمعت في زمن الاشتغال بالأدب بيتين استحسنتهما ولم أعرف قائلهما، وهما:
يا عاذلي في حب ذي عارضٍ
ما البلد المخصب كالماحـل
يموج بحر الحسن في خـده
فيقذف العنبر في السـاحـل
فلما كان في أوائل سنة اثنتين وسبعين وستمائة وقفت بالقاهرة المحروسة على مجلد من كتاب " السيل والذيل " تأليف عماد الدين الكاتب الأصبهاني، وقد جعله ذيلاً على كتابه " خريدة القصر "، فرأيت فيه ترجمة يحيى بن نزار المنبجي المذكور، وقد ذكر له مقدار عشرة أبيات يمدح فيها السلطان نور الدين محمود بن الزنكي رحمه الله تعالى، وفي جملة الأبيات البيت الثاني من هذين البيتين، فعلمت أن الذي نظم ذلك المعنى في البيت الثاني من الثلاثة هو الذي نظم هذين البيتين في هذه الأبيات التي ذكرها في كتاب " السيل ". ثم بعد ذلك بقليل جاءني صاحبنا جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد المعروف بالحافظ اليغموري فتذاكرنا وجرى ذكر البيتين وقال: إنهما لعماد الدين أبي المناقب حسام بن عوى بن يونس المحلي نزيل دمشق. وذكر أنه سمعهما منه نزار المنبجي ويكون العماد المحلي قد نظم البيت الأول وجعله توطئة للثاني، واستعمله على وجه التضمين كما جرت العادة في مثله، لكنه كان ينبغي أن ينبه على أنه تضمين كي لا يعتقد من يقف عليهما أنهما له، فأن البيت الأول ليس في جملة أبيات يحيى المنبجي التي مدح بها نور الدين رحمه الله تعالى. ثم من بعد ذلك خطرت لي مؤاخذة على العماد المحلي فإنه قال في بيته الذي جعله توطئة للثاني:
ما البلد المخصب كالماحل
والخصب والمحل إنما يكون بسبب النبات وعدمه، والبيت الثاني الذي هو التضمين شبه العذار بالعنبر، وأين النبات من العنبر؟ فالتوطئة بين البيتين ليست بملائمة، وهذه المؤاخذة مثل المؤاخذة المتقدمة على الأبيات الثلاثة.
وكنت وقفت على بيتين للعماد المحلي المذكور أيضاً أنشدنيهما عنه جماعة وهما:
قيل لي من هويت قد عبث الشع
ر بخديه قلت مـا ذاك عـاره
جمرة الخد أحرقت عنبر الـخ
ل فمن ذلك الدخـان عـذاره
وسنح لي عليهما مؤاخذة مثل المؤاخذة المذكورة، وهي أنه لما قيل له إن الشعر عبث بخديه ما أنكر ذلك بل قال " ما ذاك عذاره " فقد وافق على أنه شعر، غاية ما في الباب أنه قال هذا الشعر ما هو عاره، فكيف يقول بعد هذا " جمرة الخد أحرقت عنبر الخال " إلى آخره، فجعل العذار دخان العنبر، وأين دخان العنبر من الشعر؟ بل كان ينبغي أن يقول لهم: هذا ما هو شعر، بل هو دخان العنبر حتى يتم له المعنى.
وقد نظم صاحبنا ورفيقنا في الاشتغال بحلب عون الدين أبو الربيع سليمان بن بهاء الدين عبد المجيد بن العجمي الحلبي بيتين ألم فيهما بهذا المعنى وهما:
لهيب الخد حين بدا لـعـينـي
هوى قلبي عليه كالـفـراش
فأحرقه فصار عـلـيه خـالاً
وها أثر الدخان على الحواشي
وقد أحسن في هذا المعنى وخلص من تلك المؤاخذة، لكن وقع في مؤاخذة أخرى، وهي أنه جعل العذار احتراق قلبه، والعماد جعله دخان عنبر الخال، وبين الدخانين بون كبير، فهذا طيب الرائحة وذاك كريه الرائحة.
وقد سبق ترجمة عبد الله بن صارة الشنتريني بيتان أبدع فيهما، وهما:
ومهفهف رقت حواشي حسنه
فقلوبنا وجداً عـلـيه رقـاق
لم يكس سالفه العذار وإنـمـا
نفضت عليه صباغها الأحداق
والأصل في هذا الباب كله قوله أبي إسحاق إبراهيم الصابي الكاتب في غلامه الأسود واسمه يمن - وقد سبق ذكر الأبيات في ترجمته من هذا الكتاب، والمقصود منها هاهنا قوله في أولها:
لك وجه كأن يمناي خطت
ه بلفظ تمـلـه آمـالـي
فيه معنى من البدور ولكن
نفضت صبغها عليه الليالي
وبيتا عون الدين فيهما إلمام بقول أبي الحسين أحمد بن منير الطرابلسي - المقدم ذكره:
لا تخالوا الخال يعلـو خـده
قطرةً من دم جفني نطفـت
ذاك من نار فـؤادي جـذوة
فيه ساخت وانطفت ثم طفت
قلت: وقد خرجنا عن المقصود وانتشر الكلام، لكن ما خلا ما خلا من فائدة.
وقال أبو سعد السمعاني أيضاً: أنشدني يحيى بن نزار المنبجي لنفسه:
لو صد عني دلالاً أو معـاتـبة
لكنت أرجو تلافيه وأعـتـذر
لكن ملالاً فلا أرجو تعطـفـه
جبر الزجاج عسير حين ينكسر
وله غير هذا نظم مليح ومعان لطيفة.
وقال أبو الفرج صدقة بن الحسين بن الحداد في تاريخه المرتب على السنين ما مثاله: سنة أربع وخمسين وخمسمائة، في ليلة الجمعة سادس ذي الحجة مات يحيى بن نزار المنبجي ببغداد، ودفن بالوردية، قيل إنه وجد في أذنه ثقلاً فاستدعى إنساناً من الطرقية، فامتص أذنه فخرج شيء من مخه، فكان سبب موته، رحمه الله تعالى.
وقال السمعاني: هو أخو أبي الغنائم التاجر المعروف، وذكر أبا الغنائم ووصفه وأثنى عليه في ترجمة مستقلة في كتاب " الذيل " أيضاً، رحمه الله تعالى.
وأما العماد المحلي فإنه كان أديباً لطيفاً على ما يحكى عنه من النوادر وله نظم مليح في المقطعات دون القصائد، وكان يحفظ المقامات وشرحها، وتوفي ليلة الأربعاء عاشر شهر ربيع الأول سنة تسع وستمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية، وعرف بابن الجمال، وولد في سنة ستين وخمسمائة تقديراً بقوص، ونشأ بالمحلة، فنسب إليها.
ثم وجدت في مسوداتي بخطي بيتاً منسوباً إلى الوجيه أبي الحسن علي بن يحيى بن الحسين بن أحمد المعروف بابن الذروي الأديب الشاعر وهو.
عذاره دخان ندٍ خـالـه
وريقه من ماء ورد خده
ثم وجدت منسوباً إلى ابن سناء الملك - المقدم ذكره - والصحيح أنها لأسعد بن مماتي - المقدم ذكره أيضاً:
سمراء قد أزرت بكل أسمرٍ
بلونها ولينـهـا وقـدهـا
أنفاسها دخان ند خـالـهـا
وريقها من ماء ورد خدها
لو كتب البدر إلى خدمتهـا
ملطفاً ترجمه بعـبـدهـا
ورأيت للمهذب أبي نصر محمد بن إبراهيم بن الخضر الحلبي المعروف بابن البرهان الحاسب المنجم الطبري:
ومهفهفٍ راقت نضارة وجهه
فالعين تنظر منه أحسن منظر
أصلى بنار الخد عنبر خـالـه
فبدا العذار دخان ذاك العنبـر
فعلمت أن العماد المحلى إنما أخذ ذلك المعنى من أحد هؤلاء، والله سبحانه وتعالى أعلم
.وأغيد غضٍ زاد خـط عـذاره
لعاشقه في همه والـبـلابـل
تموج بحار الحسن في وجناتـه
فتقذف منها عنبراً في السواحل
وتجري بخديه الشبيبة مـاءهـا
فتنبت ريحاناً جنوب الجـداول
قلت: وقد خطر لي على هذا مأخذ وهو أنه جعل البيت الثاني بحار الحسن تموج في وجناته، فكيف يقول في البيت الثالث " وتجري بخديه الشبيبة ماءها " وما مقدار ماء الشبيبة بالنسبة إلى بحار الحسن؟ وما كفى هذا حتى جعلها جداول، والجداول والنهار، وأين النهار من البحار؟ ثم إنه في البيت الثاني قد شبه العذار بالعنبر، فكيف يجعله في البيت الثالث ريحاناً؟ وأين العنبر من الريحان؟ وإن كان كل واحد من العنبر والريحان قد جرت عادة الشعراء أن يشبهوا به العذار، ولكن في مقطوع واحد من الشعر ما لهم عادة يجمعون بينهما.
وكنت قد سمعت في زمن الاشتغال بالأدب بيتين استحسنتهما ولم أعرف قائلهما، وهما:
يا عاذلي في حب ذي عارضٍ
ما البلد المخصب كالماحـل
يموج بحر الحسن في خـده
فيقذف العنبر في السـاحـل
فلما كان في أوائل سنة اثنتين وسبعين وستمائة وقفت بالقاهرة المحروسة على مجلد من كتاب " السيل والذيل " تأليف عماد الدين الكاتب الأصبهاني، وقد جعله ذيلاً على كتابه " خريدة القصر "، فرأيت فيه ترجمة يحيى بن نزار المنبجي المذكور، وقد ذكر له مقدار عشرة أبيات يمدح فيها السلطان نور الدين محمود بن الزنكي رحمه الله تعالى، وفي جملة الأبيات البيت الثاني من هذين البيتين، فعلمت أن الذي نظم ذلك المعنى في البيت الثاني من الثلاثة هو الذي نظم هذين البيتين في هذه الأبيات التي ذكرها في كتاب " السيل ". ثم بعد ذلك بقليل جاءني صاحبنا جمال الدين أبو المحاسن يوسف بن أحمد المعروف بالحافظ اليغموري فتذاكرنا وجرى ذكر البيتين وقال: إنهما لعماد الدين أبي المناقب حسام بن عوى بن يونس المحلي نزيل دمشق. وذكر أنه سمعهما منه نزار المنبجي ويكون العماد المحلي قد نظم البيت الأول وجعله توطئة للثاني، واستعمله على وجه التضمين كما جرت العادة في مثله، لكنه كان ينبغي أن ينبه على أنه تضمين كي لا يعتقد من يقف عليهما أنهما له، فأن البيت الأول ليس في جملة أبيات يحيى المنبجي التي مدح بها نور الدين رحمه الله تعالى. ثم من بعد ذلك خطرت لي مؤاخذة على العماد المحلي فإنه قال في بيته الذي جعله توطئة للثاني:
ما البلد المخصب كالماحل
والخصب والمحل إنما يكون بسبب النبات وعدمه، والبيت الثاني الذي هو التضمين شبه العذار بالعنبر، وأين النبات من العنبر؟ فالتوطئة بين البيتين ليست بملائمة، وهذه المؤاخذة مثل المؤاخذة المتقدمة على الأبيات الثلاثة.
وكنت وقفت على بيتين للعماد المحلي المذكور أيضاً أنشدنيهما عنه جماعة وهما:
قيل لي من هويت قد عبث الشع
ر بخديه قلت مـا ذاك عـاره
جمرة الخد أحرقت عنبر الـخ
ل فمن ذلك الدخـان عـذاره
وسنح لي عليهما مؤاخذة مثل المؤاخذة المذكورة، وهي أنه لما قيل له إن الشعر عبث بخديه ما أنكر ذلك بل قال " ما ذاك عذاره " فقد وافق على أنه شعر، غاية ما في الباب أنه قال هذا الشعر ما هو عاره، فكيف يقول بعد هذا " جمرة الخد أحرقت عنبر الخال " إلى آخره، فجعل العذار دخان العنبر، وأين دخان العنبر من الشعر؟ بل كان ينبغي أن يقول لهم: هذا ما هو شعر، بل هو دخان العنبر حتى يتم له المعنى.
وقد نظم صاحبنا ورفيقنا في الاشتغال بحلب عون الدين أبو الربيع سليمان بن بهاء الدين عبد المجيد بن العجمي الحلبي بيتين ألم فيهما بهذا المعنى وهما:
لهيب الخد حين بدا لـعـينـي
هوى قلبي عليه كالـفـراش
فأحرقه فصار عـلـيه خـالاً
وها أثر الدخان على الحواشي
وقد أحسن في هذا المعنى وخلص من تلك المؤاخذة، لكن وقع في مؤاخذة أخرى، وهي أنه جعل العذار احتراق قلبه، والعماد جعله دخان عنبر الخال، وبين الدخانين بون كبير، فهذا طيب الرائحة وذاك كريه الرائحة.
وقد سبق ترجمة عبد الله بن صارة الشنتريني بيتان أبدع فيهما، وهما:
ومهفهف رقت حواشي حسنه
فقلوبنا وجداً عـلـيه رقـاق
لم يكس سالفه العذار وإنـمـا
نفضت عليه صباغها الأحداق
والأصل في هذا الباب كله قوله أبي إسحاق إبراهيم الصابي الكاتب في غلامه الأسود واسمه يمن - وقد سبق ذكر الأبيات في ترجمته من هذا الكتاب، والمقصود منها هاهنا قوله في أولها:
لك وجه كأن يمناي خطت
ه بلفظ تمـلـه آمـالـي
فيه معنى من البدور ولكن
نفضت صبغها عليه الليالي
وبيتا عون الدين فيهما إلمام بقول أبي الحسين أحمد بن منير الطرابلسي - المقدم ذكره:
لا تخالوا الخال يعلـو خـده
قطرةً من دم جفني نطفـت
ذاك من نار فـؤادي جـذوة
فيه ساخت وانطفت ثم طفت
قلت: وقد خرجنا عن المقصود وانتشر الكلام، لكن ما خلا ما خلا من فائدة.
وقال أبو سعد السمعاني أيضاً: أنشدني يحيى بن نزار المنبجي لنفسه:
لو صد عني دلالاً أو معـاتـبة
لكنت أرجو تلافيه وأعـتـذر
لكن ملالاً فلا أرجو تعطـفـه
جبر الزجاج عسير حين ينكسر
وله غير هذا نظم مليح ومعان لطيفة.
وقال أبو الفرج صدقة بن الحسين بن الحداد في تاريخه المرتب على السنين ما مثاله: سنة أربع وخمسين وخمسمائة، في ليلة الجمعة سادس ذي الحجة مات يحيى بن نزار المنبجي ببغداد، ودفن بالوردية، قيل إنه وجد في أذنه ثقلاً فاستدعى إنساناً من الطرقية، فامتص أذنه فخرج شيء من مخه، فكان سبب موته، رحمه الله تعالى.
وقال السمعاني: هو أخو أبي الغنائم التاجر المعروف، وذكر أبا الغنائم ووصفه وأثنى عليه في ترجمة مستقلة في كتاب " الذيل " أيضاً، رحمه الله تعالى.
وأما العماد المحلي فإنه كان أديباً لطيفاً على ما يحكى عنه من النوادر وله نظم مليح في المقطعات دون القصائد، وكان يحفظ المقامات وشرحها، وتوفي ليلة الأربعاء عاشر شهر ربيع الأول سنة تسع وستمائة بدمشق، ودفن بمقابر الصوفية، وعرف بابن الجمال، وولد في سنة ستين وخمسمائة تقديراً بقوص، ونشأ بالمحلة، فنسب إليها.
ثم وجدت في مسوداتي بخطي بيتاً منسوباً إلى الوجيه أبي الحسن علي بن يحيى بن الحسين بن أحمد المعروف بابن الذروي الأديب الشاعر وهو.
عذاره دخان ندٍ خـالـه
وريقه من ماء ورد خده
ثم وجدت منسوباً إلى ابن سناء الملك - المقدم ذكره - والصحيح أنها لأسعد بن مماتي - المقدم ذكره أيضاً:
سمراء قد أزرت بكل أسمرٍ
بلونها ولينـهـا وقـدهـا
أنفاسها دخان ند خـالـهـا
وريقها من ماء ورد خدها
لو كتب البدر إلى خدمتهـا
ملطفاً ترجمه بعـبـدهـا
ورأيت للمهذب أبي نصر محمد بن إبراهيم بن الخضر الحلبي المعروف بابن البرهان الحاسب المنجم الطبري:
ومهفهفٍ راقت نضارة وجهه
فالعين تنظر منه أحسن منظر
أصلى بنار الخد عنبر خـالـه
فبدا العذار دخان ذاك العنبـر
فعلمت أن العماد المحلى إنما أخذ ذلك المعنى من أحد هؤلاء، والله سبحانه وتعالى أعلم