منبج المدينة المقدسة
أطلق اليونانيون اسم "هيرابوليس Hierapolis” أي المدينة المقدسة على ما نسميها اليوم مدينة منبج، وجاءت هذه التسمية بسبب ما لها من حرمة دينية لدى سكانها، ولما تحتويه من معابد وثنية يحج إليها الألوف من الناس وبخاصة الوثنيون فيهم لحضور الاحتفالات الدينية التي كانت تقام فيها، والتي يشرف على تنظيمها وتنفيذها رئيس كهان المدينة، وكان يتميز عن الآخرين بلباسه الأرجواني اللون. وكانت أعظم آلهة هيرابوليس الإلهة أتارغيتس Atargatis، ويعود تاريخ هيكلها إلى عام 320 ق.م، وإلى جانبه هيكل آخر لتمثال زوجها الإله حدد Hadad رب الصواعق، والعواصف، والأخصاب، ويظهر جالساً على عرش مستنداً إلى ثورين(1).
إن السمعة الدينية التي اشتهرت بها هيرابوليس، جعلت اليونانيين يتأثرون بها وذلك عن طريق جنودهم العائدين إلى بلادهم حاملين معهم معتقدات وطقوساً دينية، وبعض ثقافات شعوب المناطق التي قدموا منها، وذلك زمن الإسكندر المكدوني وخلفائه السلوقيين. وقد دفع ذلك أصحاب السلطة في بلاد اليونان إلى الاستعانة برهبان مدينة هيرابوليس لإحياء احتفالات دينية في مدينة ديلوس اليونانية مماثلة لما كان يجري في بلادهم، مما يجعل المدينة اليونانية محجاً للوثنيين اليونان وأمثالهم من سكان المناطق المجاورة.
آراء حول "أصل تسمية" منبج:
سيطر الآشوريون على موقع مدينة منبج، عندما أخذوا بالتوسع لبناء إمبراطوريتهم، وكان ذلك الموقع يسمى آنذاك Nappigi أو Nampige أي النبع بينما دعاها الآراميون Nappigu، وقد حُرّف هذا الاسم مع الزمن فأصبح Mabug أي النبع أيضاً.
ودعاها اليونانيون باسم Bambyce، كما دعيت في اليونانية الرومانية باسم Hierapolis أي المدينة المقدسة.
وهنالك آراء أخرى حول أصل التسمية، إذ يعتقد أصحابها أن الاسم محرف عن الآرامية القديمة، ومن المعروف أن الآراميين بدأ نجمهم بالصعود بعد أن أخذت الإمبراطورية الآشورية بالتفكك، ونخلص من ذلك إلى القول بأن الآراميين حرفوا التسمية الآشورية إلى لغتهم.
ورأي ثالث أورده ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان إذ يقول:
"ذكر بعضهم أن أول من بناها (والحديث هنا عن مدينة منبج) كسرى لمَّا غلب على الشام وسمّاها (من به) أي أنا أجود فعربت فقيل لها منبج...(2) وكان بها يبث نار للفرس(3).
ويرى الخوري برصوم أيوب في كتابه (الأصول السريانية في أسماء المدن والقرى السورية وشرح معانيها) أنها اشتقت من NBAG بمعنى نبع، طلعَ، برزَ.. الخ.
وقد أكَّد المؤرخ الغزى صاحب كتاب نهر الذهب، هذا المعنى وأنها سميت بذلك منبج بسبب وجود عين ماء كبيرة كانت تعرف باسم الرام(4).
لُمح من تاريخ منبج:
من المؤسف أن معلوماتنا عن مدينة منبج في ظل الحكم الآشوري قليلة جداً تكاد لا تذكر، وكذلك الأمر بالنسبة لعصر الممالك الآرامية، وكل ما نعرفه أن منبج كانت ضمن مملكة بيت عديني الآرامية الواقعة بين البليخ شرقاً وضفتي نهر الفرات الأوسط غرباً، وكانت عاصمتها مدينة برسيب "تل أحمر" حالياً الواقعة إلى الجنوب من مدينة جرابلس.
كما نعرف أيضاً أن هذه المدينة كانت قبيل سيطرة الإسكندر المكدوني على المنطقة تحت حَكم أسرة عبد حدد، وهي أسرة آرامية على ما يبدو، وأصبحت منبج في ظلها مركزاً لعبادة الإلهة أتار غاتس ATARGATIS وزوجها الإله حدد، ولقد أعادت زوجة سلوقس الأول بناء معبد أتارغاتس الوثني في بامبيس، للتدليل على مدى احترام السلوقيين لهذه الآلهة، ومما زاد في أهمية منبج أنها أصبحت خط الدفاع الأول في مواجهة الفرس في العصر الهلنستي، واستمرت في لعب هذا الدور في العصرين الروماني والبيزنطي، يشهد على ذلك الآثار المتبقية حتى وقت قريب والمتمثلة في تحصينات الإمبراطور جوستنيان لهذه المنطقة. وفي هذه المدينة أرغم الإمبراطور البيزنطي هرقل خصومة الفرس على إعادة الصليب الذي كانوا قد استولوا عليه من مدينة القدس عام 610م، وكان البيزنطيون يعتقدون أن ذلك الصليب هو الذي صلب عليه السيد المسيح، ومن هنا جاءت أهميته للبيزنطّيين، وقد بقي عند الفرس حتى عام 630 م، وأشار القرآن الكريم إلى الخلاف بين البيزنطيين والفرس في الآية الكريمة:
"غلبت الروم في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون في بضع سنين(5)".
وعندما بدأت الفتوحات العربية الإسلامية كانت منبج تحت الحكم البيزنطي، إلا أنها تحررت منه زمن الخليفة عمر بن الخطاب الذي كلَّف عامر بن الجراح "أبا عبيدة" بطرد البيزنطيين من أراضي بلاد الشام، وذلك بعد انتصار القوى الإسلامية في معركة اليرموك مما شجعهم على متابعة الزحف نحو الشمال والشمال الغربي لنشر قيمهم الدينية والأخلاقية التي جاء بها الإسلام.
زحف أبو عبيدة بقواته نحو حلب الساجور، وقدَّم عياض بن غنم الفهري إلى منبج ثم لحق به(6)، وقد صالح إنطاكية على شروط هي الجزية أو الجلاء، فجلا بعضهم، وأقام بعضهم فأمنهم ووضع على كل حالم منهم ديناراً وجريباً(7).
وعمد أهالي مدينة مبنج إلى عقد الصلح مع عياض على نفس الشروط التي صالح بموجبها أهل إنطاكية، وقد أقرَّ أبو عبيدة ذلك.
ومدينة منبج هذه تقع في الشمال الشرقي لمدينة حلب، وتبعد عنها نحو 80 كم، وتقوم على أرض فسيحة ترتفع نحو 398 متراً سطح البحر، والمعدل السنوي لأمطارها يزيد على 250مم.
ويغلب على سكان هذه المدينة العمل بالزراعة أو رعي الماشية إلى جانب بعض الحرف الضرورية لتلبية حاجاتهم. ويعتبر القسم الشمالي والشمالي الشرقي للمدينة أكثر تطوراً من القسم الجنوبي، والجنوبي الغربي الذي يغلب على سكانه الطابع الريفي والاهتمام بتربية الدواجن والمواشي.
وإلى الشمال من مدينة منبج وعلى امتداد نهر الساجور تقوم هضاب مغطاة بالأحجار الصوانية، وتعود إلى العصر الحجري القديم المتوسط مما شجع أهالي المنطقة على استخدام تلك الحجارة في صنع أدواتهم الضرورية لحياتهم اليومية شأنهم في ذلك شأن جميع أناس عصور ما قبل التاريخ.
كما استغل سكان المنطقة القدماء، وفرة المياه فيها وقربها من سطح الأرض، وسهولة تناولها، فأوجدوا أنظمة للري وأنشؤوا أقنية للسقاية، فأصبحت المنطقة منتجعاً للراغبين في الحياة الهادئة المستقرة والتي تجعل من الزراعة وتربية المواشي والدواجن مصدر رزق كبير لهم.
ولقد أشار ياقوت الحموي إلى ذلك عند حديثه عن مدينة منبج بما يلي:
"كان على منبج سور مبني بالحجارة محكم، بينها وبين الفرات ثلاثة فراسخ وبينها وبين حلب عشرة فراسخ، شربهم من قُنِيٍّ تسيح على وجه الأرض، وفي دورهم آبار كثيرة، أكثر شربهم منها لأنها عذبة صحيحة"(8).
كما وصفها ابن حوقل بما يلي: " وبالقرب من بالس مدينة منبج، حصينة، كثيرة الأسواق القديمة، يُصنع فيها نوع من الحلوى معمولة من الزبيب، والجوز والفستق والسمسم، تصدر إلى حلب وأماكن أخرى، والمدينة قديمة الآثار عظيمة الأسوار في تربة ندية رطبة تميل إلى الصفرة (زعفرانية)، يغلب عليها وعلى مزارعها الأعذاء، والمدينة حصينة عليها سور أزلي، روحي وبقربها مدينة سبخة"(9).
ورحالة عربي مشهور هو ابن جبير، زار مدينة منبج وكتب عنها في رحلته ما يلي:
"بلدة فسيحة الأرجاء، صحيحة الهواء، يحف بها سور عتيق، تحفّ بغربيها وشرقيها بساتين ملتفة الأشجار، مختلفة الثمار والماء يطرد فيها، ويتخلل جميع نواحيها، وخصص الله داخلها بآبار معينة شهدية العذوبة، سلسبيلة المذاق، تكون في كل دار منها البئر والبئران وأرضها كريمة تستنبط مياهاً كلها، وأسواقها وسككها فسيحة متسعة، ودكاكينها وحوانيتها كأنها الخانات والمخازن اتساعاً وكبراً، وأعلى أسواقها مسقفة.... ولها قلعة حصينة في جوفها الخ وأهلها أهل فضل وخير فمعاملاتهم صحيحة وأحوالهم مستقيمة(10). أجمع هؤلاء الرحالة في وصفهم لمدينة منبج أنها طيبة الهواء، جيدة التربة غزيرة المياه، كثيرة البساتين، والمخازن والدكاكين.. الخ
وقد زارها هارون الرشيد وكان واليها من قبله عبد الملك بن صالح بن علي الهاشمي فسأله الرشيد أن يصف له المدينة فقال: "طيبة الهواء، قليلة الأدواء فقال الرشيد كيف ليلها فأجاب عبد الملك سحر كله فقال الرشيد صدقت إنها لطيبة فأجابه بل طابت بك يا أمير المؤمنين وأين يذهب بها عين الطيب وهي بُرَة حمراء وسنبلة صفراء، وشجرة خضراء في فيافٍ فيح بين قيصوم وشيح" وكان عبد الملك هذا يضرب به المثل في الفصاحة والبلاغة(11).
لقد اهتم سكان مدينة منبج بالزراعة منذ مطلع العصور الوسطى فزرعوا الحبوب بمختلف أنواعها، والقطن، والقنب وأشجار التوت التي كانت ضرورية لتربية دود القز، وقد أشار إلى ذلك زين الدين بن الوردي في قصيدة نظمها إثر الزلزال الكبير الذي ضرب المدينة عام 1345م وختمها بقوله:
منبج أهلها حكوا دود قز
عندهم تجعل البيوت قبورا
رب نَعِّمْهم فقد ألفوا من
شجر التوت جنة وحريرا(12)
ولم يكن هذا الزلزال هو الوحيد الذي ضرب منبج، بل سبقه زلزال آخر عام 748م نكبت بسببه المدينة وتهدم العديد من دورها وحوانيتها، كما تهدمت كنيسة يعقوبية فوق رؤوس المصلين الذين كانوا بداخلها.
أما في المجالين التنظيمي والإداري فقد أصبحت منبج في عهد الخليفتين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان جزءاً من العواصم التي حُددت مهامها بالدفاع عن الحدود الشمالية للدولة العربية الإسلامية الناشئة.
وقد انتقلت قبائل عربية كثيرة من موطنها الأصلي في شبه الجزيرة العربية إلى المناطق المحررة واستوطنتها، وكانت قبيلة تغلب اليمنية الأصل والتي ينتمي إليها الشاعر المشهور الأخطل قد استوطنت المنطقة الواقعة بين دجلة والفرات والخابور كما تسرب بعض أفخاذها نحو الغرب واتخذوا من منطقة منبج سكَناً لهم بسبب خصوبة الأرض ووفرة المياه العذبة.
وفي العصر الأموي عمد الخليفة يزيد بن معاوية بن أبي سفيان إلى إحداث جند خامس دُعي باسم جند قنسرين وضم إليه إنطاكية ومنبج والجزيرة حرصاً على سلامة حدود الدولة ودعماً لها.
أما في العصر العباسي فقد أعاد هارون الرشيد عام 170 هـ / 786م تنظيم الحدود الشمالية لدولة الخلافة العباسية رغبة منه باستئناف الجهاد، فعمد إلى فصل منبج عن جند قنسرين وجعلها مركز منطقة العواصم الجديدة والتي تضم المناطق الحدودية السورية والجزيرة العليا وعين عبد الملك بن صالح بن علي بن عباس حاكماً لها، فعمد هذا الحاكم إلى بناء صروح كبيرة وقوية، استخدمت كقواعد لانطلاق الصائفة ضد البيزنطيين، وبذلك أصبحت تُشكل خط التماس الأول مع العدو، لذا كان لابد من تهيئتها عسكرياً ومدنياً لاحتواء الألوف من المجاهدين القادمين من شتى البقاع الإسلامية للدفاع عن حدود الدولة ولقتال البيزنطيين سواء بدافع ديني أو رغبة بالكسب والربح. وما إن بدأ الضعف يدب في أوصال الدولة العباسية حتى بدأ بعض القادة من العسكريين أو أصحاب العصبيات الطامعين بالعمل باجتزاء إمارات ودويلات لهم من جسم الدولة العباسية، مع حرصهم على الاعتراف في الغالب بسلطة الخليفة العباسي الذي لم يكن له حول ولا قوة.
وقد استطاع أحمد بن طولون أن يمد نفوذه من مصر إلى بلاد الشام وأن يضمها إلى دولته، وبذا أصبحت منبج تحت سيطرة الطولونيين، وقد برر ابن طولون عمله بحجة رغبته بمقارعة البيزنطيين والعودة إلى مجاهدتهم.
وفي زمن سيف الدولة الحمداني، استعرت المعارك بين الدولة الحمدانية والبيزنطيين، وكانت سجالاً بين الطرفين، وقد زادت أعباء سيف الدولة مع أنه وقَّع مع الإخشيديين خلفاء الطولونيين صلحاً في عام 334 هـ /945م حصل بموجبه على إقليم واسع يتألف من عواصم أنطاكية ومنبج، وقد استعادت هذه الأخيرة أهميتها بسبب قربها من مدينة حلب ولثروتها الزراعية، وقربها من نهر الفرات قرب معبر على النهر دعي باسم جسر منبج حيث تقوم قلعة نجم، وفي الواقع أن منبج بقيت هدفاً للبيزنطيين خلال النصف الثاني من القرن العاشر الميلادي، مما جعل الحرب بين الطرفين شبه مستمرة.
وعندما احتل الفاطميون سورية الشمالية 406 هـ /1015 م أصبح صالح بن مرداس سيد حلب. فضم إليه مدينة منبج وتعاقب على هذه المدينة سلطات عدة، فقد سيطر عليها السلاجقة الأتراك ثم انتقلت إلى سيطرة الزنكيين إذ بعد وفاة زنكي 541هـ/ 1146م قاد ولده نور الدين حملة عسكرية إلى الرها لمحاصرتها ماراً بمدينة منبج مع قواه العسكرية وآلات حصاره، وكان أميرها يومئذٍ حسان المنبجي، وهو حليف مخلص لنور الدين، والذي باستيلائه على تل باشر عام 546 هـ / 1151م أنهى بذلك كونتية الرها.
وبعد وفاة حسان المنبجي أعطى نور الدين منبج لولده غازي كإقطاع إلا أن هذا ما لبث أن ثار عليه. مما جعل نور الدين يقتحم المدينة ويعزل غازي ويعين مكانه أخاه قطب الدين اينال.
بنى نور الدين مدرسة للشافعية في منبج لابن أبي عصرون بينما بنى قطب الدين مدرسة مماثلة للأحناف.
بقيت منبج تحت سلطة الزنكيين حتى احتلها صلاح الدين الأيوبي 572 هـ /1176م(13). وتعرضت فيما بعد عام 638 هـ /1240م للنهب والسلب من قبل الخوارزمية الذين أشاعوا فيها الخراب والدمار والقتل(14).
وبوفاة الملك الصالح أيوب ملك مصر، واغتيال ولده توران شاه، انتقل الحكم عملياً إلى القائد المملوكي المعز ايبك التركماني الجاشنكيري الصالحي، ويُعد المؤسس لدولة المماليك والتي استمرت نحو مئتين وسبعين سنة 1250 ـ 1517 م بفرعيها البحري والبرجي. وقد تعرضت بلاد الشام خلال حكمهم إلى غزوين شرسين: أولهما بقيادة هولاكو المغولي الذي وضع نهاية للدولة العباسية، إثر احتلاله بغداد وقتله للخليفة العباسي وأفراد أسرته عام 1258 م ثم زحف نحو بلاد الشام واحتل القسم الشمالي منها، وارتكب جرائم لا يمكن تصورها في حلب ومنطقتها، ثم اتجه نحو حماة ودمشق، إلا أن ظروفاً استجدت، فاضطر إلى الذهاب إلى إيران بسبب وفاة أخيه الخان الكبير، تاركاً جيشه لإتمام الغزو بقيادة أحد قواده ولكن جيش المماليك بقيادة الظاهر بيبرس تمكن من سحق الجيش المغولي في معركة عين جالوت 658 هـ / 1260م.
أما الغزو الثاني فكان بقيادة تيمورلنك، الذي غزا في عام 804 هـ/ 1401م شمال سورية واستولى على مدينة حلب ومنبج وهدم هذه الأخيرة بعد أن فتك جنوده بسكانها، كما فعلوا ذلك بحلب ودمشق.
كان آخر سلاطين المماليك قونصوه الغوري الذي هزمه العثمانيون في معركة مرج دابق قرب حلب عام 923هـ/ 1517م وبذلك انتقلت السيادة من المماليك إلى العثمانيين، وأصبحت منبج جزءاً من أملاك السادة الجدد، وقد استمر الاحتلال العثماني لبلاد الشام نحو أربعة قرون 1517ـ 1918.
لم يطرأ على منبج في ظل الحكم العثماني أحداث ذات أهمية تذكر سوى أنها استقبلت أفواجاً من الشركس المهاجرين من القوقاز عام 1878م ليقيموا فيها ويصبحوا من مواطنيها.
إن الظروف السياسية والعسكرية التي عصفت بمدينة منبج لم تكن مشجعة لإظهار مواهب أبنائها وبخاصة في ظل الحكم العثماني وذلك تمشياً مع سياسته القائمة على تشجيع النزعات الدينية وتغذيتها، وتوظيفها لدعم استمراره، وقد أغرقت هذه السياسية البلاد التي كانت خاضعة للعثمانيين بالجهل والتخلف.
ولابد لنا من التذكير بأن منبج في العصر العباسي برز فيها شاعران كبيران وهما: أبو فراس الحمداني، وأبو عبادة الوليد البحتري الطائي:
أما الشاعر الأول فهو الحارث بن سعيد بن حمدان (أبو فراس) نشأ يتيماً إذ قتل والده وكان عمره ثلاث سنوات آنذاك فاحتضنه ابن عمه علي بن أبي الهيجاء بن حمدان والذي لقب بسيف الدولة، وكان قد استقل بحلب، وما إن اشتدَ ساعد أبي فراس حتى عينه الأمير سيف الدولة أميراً على منبج 336 هـ /947 م وكان عمره آنذاك ستة عشر عاماً.
فأخذ يقارع الروم البيزنطيين دفاعاً عن الأرض العربية التي كانت تحت سلطته. وفي إحدى غزواته لبلاد الروم وتوغله فيها، أسر القائد البيزنطي نقفور فوكاس أبا فراس في مدينة خرشنة عام 351 هـ / 962 م وكان جريحاً، أصابه سهم بقي نصله في فخذه(15) ، ونقل أبو فراس أسيراً إلى القسطنطينية حيث بقي فيها نحو سبع سنوات، نظم خلالها أجمل قصائده المسماة الروميات، وكان فخوراً بنفسه وبأسرته وهو القائل:
إن زرت خرشنة أسيرا
فلقد أجلت بها مغيرا
من كان مثلي لم يبت
إلا أميراً أو أسيرا
ليست تحل سراتنا
إلا الصدور أو القبورا
إن الخلافات العائلية، والأطماع السياسية، أودت بحياة أبي فراس، فقتل عام 357 هـ / 968م في مدينة صدد(16) بإيعاز من أبي المعالي بن سيف الدولة الحمداني.
أما الشاعر الثاني فهو أبو عبادة الوليد البحتري الطائي، ولد بمدينة منبج 206 هـ / 821م ونشأ وترعرع في أحضانها، وما إن أصبح شاباً حتى أخذ يزور بعض المدن القريبة كالمعرة وحلب، وحمص حيث التقى بالشاعر أبي تمام الذي استمع إليه وأطرى شعره، ثم انتقل البحتري إلى بغداد فسامراء وأخذ يقترب من رجالات الدولة العباسية، فمدح الخليفة المتوكل، ووزيره الفتح بن خاقان وبعض أمراء البيت العباسي، كما عاصر مقتل الخليفة المتوكل وأخيراً توفي زمن المعتضد وقد شارف عمره على الثمانين 285 هـ/898 م والأرجح أنه دفن في مدينة منبج.