لننطلق إلى هذا الموقع الذي يبعد عن مدينة منبج حوالي 30 كم شرقاً
أول دخول إلى هذا المكان يجعل المرء يتسآل، هل هو داخل معبد أم مدفن؟ فهناك بعض المنحوتات لطقوس جنائزية.. إلى أي حقبة يعود؟!
يجيب الباحث الأستاذ حميدو حمّادة عن هذا السؤال قائلاً: أعتقد أنه يعود إلى القرن الثاني الميلادي، أي إلى الفترة التي ازدهرت فيها تدمر وهيرابوليس وحران، نحن نعرف ممالك عديدة من هذه الفترة، نعرف سلالة أبجر في هذه المنطقة، نعرف طريقة النحت في هيرابوليس.. طريقة النحت هنا هي منبجية وتعود إلى فترة هيرابوليس. كما نلاحظ أن الأزياء والنقوش تشابه إلى حد بعيد النماذج التدمرية.
هناك طقوس دينية عريقة كالتي قرأنا عنها في نصوص إيمار، فإذا قرآنا تلك النصوص ودخلنا إلى هذا المعبد فسنجد نفس المشاهد، فهناك مشاهد موسيقية ومشاهد لكاهنات واقفات بحالة صمت أبدي يأخذك إلى عمق ديني.. أنا أعتقد بأن هذا المكان هو عبارة عن معبد جنائزي.. إنه معبد كانت تجرى به طقوس، هذه الطقوس كانت تتعلق باحتفالات سنوية أو بذكرى معينة للوفاة، فهناك أناشيد وهناك تقاليد دينية عريقة عرفت في بلاد الشام منذ أقدم العصور، منذ عصر ماري ثم في إيمار ثم في فترة الغساسنة ثم في الفترة العربية الإسلامية.
في بعض اللوحات نرى عازفين أو عازفات، ونحن لدينا في نصوص إيمار ما يعرف بـ الزمّارو وهم الموسيقيين، إنهن قارعات للطبال من أجل ضبط إيقاع مسيرة جنائزية أو صلوات جنائزية
نحن هنا أمام مشهد مذهل ليس له مثيل في كل مدن الشرق، فأمامنا حوالي سبعين منحوتة بالحجم الطبيعي، هناك بعض المدافن التدمرية التي قد تقترب من هذا المستوى، وهنا أيضاً مدافن منبجية فراتية.. إنها ثقافة أصيلة وليست وافدة، هي ليست رومية ولا فارسية، إنها ثقافة بلاد الشام منذ القرن الثاني وحتى القرن السابع.
هناك نقوش تحت المنحوتات بحاجة إلى مزيد من البحث والدراسة، وفي الصف الأعلى نلاحظ بعض العازفات بنفس التسلسل أي عمود فتمثال، عمود فتمثال وهكذا.. ولكن يبدو أن لهؤلاء الأشخاص مهام مختلفة.. أعتقد أننا أمام كاهنات المعابد الذين كانوا يقومون بخدمة المعبد وخدمة الآلهة.
هناك ما يعرف بالاسكيتس وفي الزاوية الأخرى تمثال للثور، ونذكر هنا أن هناك نقش للسكيتس في موقع آخر من مواقع الفرات وهو موقع عناب السفينة، حيث أعيد تركيب الموقع في قلعة جعبر ولكن ذاك كان مدفن صغير لا يصل إلى هذا الحجم الهائل.
أما بالنسبة للثور فنحن نعرف أن الثور هو رمز للإله حدد، وهو أحد رموز آلهة الشرق القديم. علينا أن نفكر بالمدرسة المنبجية، علينا أن نفكر بمعبد هيرابوليس، فهذا المعبد ربما يوضح لنا الطقوس التي كانت تمارس في هذه المعابد.
هذا واحد من المعابد وكما لا حظت في حافة الوادي، هناك مجموعة من المدافن التي لم تفتح بعد، ودراسة كل المدافن الموجودة سيغني كل علماء الآثار في العالم. هذا المكتشف يوازي البتراء.
وأخيراً يضيف محمد علاء الدين:
نحن امام اكتشاف جديد، وقد نكون على أبواب اكتشاف حضارة جديدة من الحضارات التي ذخرت بها أرض الفرات وذخرت بها أرض الوطن على امتدادها واتساعها، ولكن ما يحز في النفس والفكر معاً أن يبقى مثل هذا المكان في العراء دون عنايةٍ ودون اهتمام. لا نريد أن نفتح دفاتر الماضي ونحن نعيش مسيرة التطوير والتحديث، بل علينا أن نتكاتف جميعاً قبل أن يأتي اللصوص على ما أتوا عليه وعلى ما بقي لهم، وقبل أن تمتد يد العابثين لتعيث فساداً أكبر مما عبثت. علينا أن نتكاتف جميعاً، آهلين وجهاتٍ معنية.. ثقافة وسياحة وآثار وإعلام وحتى مستثمرين.. لنعيد التصور أن الدرجات الحجرية التي كانت موجودة من أمام هذا المعبد/المدفن إلى نهر الفرات في الأسفل والذي تشكلت على ضفافه هذه البحيرة الجميلة "بحيرة الأسد"، هذا النهر نهر الفرات الخالد بالحضارات العظيمة التي قامت على ضفافه.. لنعيد الحياة إلى هذا المعبد.
الحلقة من إعداد: رضوان فاخوري
سيناريو وتعليق: محمد علاء الدين
المادة العلمية: حميدو حمّادة
إخراج: محمود زريق
الأبجدية الجديدة
مالك الحداد